لقد سحقت الإمبراطورية الإسبانية ثورة المورسيكيين بلا رحمة وإنتهي بذلك عصر التمرد والثورة المسلحة إلي الأبد وعلي الرغم من أن المورسيكيين بعد هذة الأحداث الدامية عاشو في إسبانيا في إستكانة وخنوع لا يخشي بأسهم إلا ان ذلك لم يرضي الكنيسة الكاثوليكية المتعصبة فقد ظل المورسيكيين رغم كل ما حدث قوة إقتصادية مؤثرة فهم أرباب الحرف والمهن والزراعة وكان هذا النفوذ يضمن لبعضهم بين الحين والأخر مكانة لائقة في المجتمع الإسباني من إتصال بدوائر الحكم والتاثير في سير الأحداث فتابعت محاكم التفتيش نشاطها الدموي ضد المورسيكيين لإقتلاع بقايا المجتمع الأندلسي من إسبانيا وإلي الأبد فلم يكن لدي الكنيسة ثمة ثقة في إلتزام المورسيكيين بالعقيدة المسيحية ويتضح ذلك من ما تم نقلة عن أحد كبار مطارنة الكنيسة المطران جريرو في عام 1565 ميلادية حين قال (( إنهم خضعو للتنصير ولكنهم ظلو كفرة في سرائرهم وهم يذهبون للقداس تفاديا للعقاب ويعملون خفية في الأعياد ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من إحتفالهم يوم الأحد ويستحمون حتي في ديسمبر ويقيمون الصلاة خفية ويقدمون أولادهم للتنصير خضوعا للقانون ثم يغسلونهم لمحو أثار التنصير ويجرون ختان أولادهم ويطلقون عليهم أسماء عربية وتذهب عرائسهم في الكنيسة في ثياب أوربية فإذا عدن إلي المنزل إستبدلنها بثياب عربية وإحتفلو طبقا للرسوم العربية )) إذن فقد تغلبت العصبية الكنسية علي روح العقل والمنطق والتعايش السلمي علي الرغم من أن المسيحيين واليهود ظلو قرونا يعيشون في كنف الإسلام وتحت حماية الدولة الأندلسية في سلام ودعة لا يتعرض لهم أحد في دينهم أو أموالهم ولهم حقوق المواطنة وعليهم واجباتها......
مارست محاكم التفتيش عملها القبيح بكل ضراوة ضد المورسيكيين ولم يخفت هذا النشاط حتي أواخر القرن السادس عشر ففي عام 1591 بلغ عدد القضايا 291 قضية وفي عام 1604ميلادية في فجر القرن السابع عشر نفذت أحكام دموية ضد 68 مورسيكيا وفي عام 1607 ميلادية تم تعذيب 33 مورسيكيا حتي إعترفو بصوم شهر رمضان وطبقت العقوبة عليهم...
عصر الغارات البحرية:
ظلت الشواطيء الجنوبية لإسبانيا طوال القرن السادس عشر وفي بدايات القرن السابع عشر مسرحا لهجوم البحارة المغامرين من الأندلسيين اللذين تم نفيهم لبلاد المغرب ومن البحارة الترك ومن المغاربة بدافع الجهاد والإنتقام وحصد الغنائم أيضا فكانت تحدث هجمات خاطفة علي الشواطئ ثم يعود المهاجمون مثقلون بالغنائم وبالأسري وأحيانا يقوم المهاجمون بنقل الكثير من المورسيكيين الراغبين في الهجرة وقدر عدد المورسيكيين اللذين تم نقلهم بهذة الطريقة بالألاف وقد كانت ثغور المغرب العربي بطبيعتها الوعرة وشواطئها الصخرية تمثل ملاذا أمنا لسفن المجاهدين بعيدا عن أعين الأسطول الأسباني القوي اللذي لم يستطع وأسبانيا سيدة البحار يومئذ القضاء علي هذة الهجمات الخاطفة التي هي أشبة بحرب العصابات ودائما ما كان المورسيكيين في الثغور الجنوبية الأسبانية في موضع الإتهام بمعاونة البحارة المهاجمين وتوفير المأوي والمؤن لهم ومساعدتهم علي الرسو بعيدا عن أعين الأسطول والجيش الأسباني وفي الحقيقة كان الكثيرمن هذة الإتهامات صحيحا فقد ظلت صلة المورسيكيين بالمغرب العربي قائمة وفي كل المحن والخطوب كانت الأنظار تتجة دائما صوب المغرب العربي أملا في أن يلبي مسلمي المغرب النداء كما تمت تلبيتة في عهد يوسف بن تاشفين أمير المغرب المرابطي العظيم في عام 1086 ميلادية وقت أن إشتدت وطأة أسبانيا النصرانية علي ملوك الطوائف المتناحرين وبعد أن سقطت طليطلة وبدا ان الأمر مجرد وقت حتي تسقط بقية القواعد الأندلسية وصار مصير الإسلام في الأندلس علي المحك فكانت موقعة الزلاقة الخالدة التي عبرت فيها جيوش المغرب العربي مضيق جبل طارق و دحرت إسبانيا النصرانية وهزمتها شر هزيمة وكانت بمثابة قبلة الحياة التي بسببها عاش الإسلام في الأندلس 400 عاما أخري لم يكن مقدرا لة أن يعيشها لولا همة وعزيمة بن تاشفين..ولكن الأوضاع قد تغيرت ولم يكن ملوك المغرب العربي المعاصرين لسقوط غرناطة وما بعد السقوط بمثل هذة الهمة والعزيمة.لم يكونو من ذلك الطراز النفيس من الملوك اللذين يحملون هموم أمتهم ويشغلهم مصيرها....
في عام 1603 ميلادية توفي ملك المغرب أحمد المنصور ودخل أولادة الثلاثة في حرب أهلية طاحنة للظفر بعرش المغرب وإنتهت الحرب بإنتصار مولاي زيدان علي أخوية في عام 1607 ميلادية وقتل أخية أبي فارس وفر الأخ الثالث أبي عبد اللة المأمون إلي أسبانيا وإستنجد بالملك فيليب الثالث وطلب معاونتة كي يسترد عرشة ووعد بتسليم ثغر العرائش إلي الأسبان وهنا بدت الفرصة سانحة لتحرك المورسيكيين في بلنسية وراسلو مولاي زيدان وأوضحو لة سهولة غزو أسبانيا ومحاربتها وأنهم علي إستعداد لتقديم مائتي ألف مقاتل متي أقدم علي الغزو وقدم لهم السلاح ولكن زيدان لم يحفل بهذا العرض وكان ردة بأنة لا يستطيع أن يحارب خارج بلادة... وإستجاب فيليب لطلب المأمون وأرسل معة قوة إسبانية إستولت بالفعل علي ثغر العرائش وبهذة الخيانة إنفض عن المأمون كثير من مؤيدية ولقي مصرعة بعد ذلك علي يد نفر من زعماء غمارة وقتلوة...
مأساة النفي:
كانت هذة هي الظروف التي حملت أسبانيا علي إتخاذ ذلك القرارالهمجي في 22 سبتمبر 1609 ميلادية واللذي يقضي بطرد جميع المورسيكيين إلي بلاد المغرب وقد يقول قائل إن أسبانيا من حقها وقد أقيمت دلائل أكثر من مرة علي المورسيكيين يتعاونون مع أعداءها المباشرين أن تقوم بنفيهم وهذا في ظاهرة صحيح ولكن الحقيقة أن أسبانيا من البداية لم تتعامل مع الأندلسيين كمواطنين أسبان فلم تمنحهم أدني الحقوق وأرغمتهم علي ترك لغتهم وزيهم ودينهم ونكلت بهم محاكم التفتيش فقتلت ونهبت وعذبت وصادرت وطردت فأي ولاء كانت تنتظرة أسبانيا إذا من المورسيكيين؟؟؟ فهذة حجة باطلة لا أساس لها وربما لو تمت معاملة الأندلسيين بشيء من الرفق والرحمة ولم يرغمو علي التنصير ولم يتم تدمير هويتهم الثقافية لكان عندهم الولاء الكافي للدولة الأسبانية ولرأينا في حاضرنا اليوم مكونا أساسيا من مكونات الشعب الأسباني يعتنقون الإسلام ويتحدثون العربية
وقضي هذا القرار المشين بوجوب مغادرة جميع المورسيكيين لمدنهم وقراهم صوب الثغور الجنوبية التي حددتها الحكومة في غضون ثلاثة ايام وأن تتكفل الحكومة بنفقة السفن التي ستنقلهم وبإطعامهم أثناء الطريق ويعاقب المخالفون بالموت وأن تصادر جميع عقاراتهم لصالح الدولة وأن يسمح لهم بحمل ما يستطيعون من متاع وإستثني من القرار الأطفال دون الرابعة إذا وافق أباؤهم والأطفال دون السادسة من أبناء المدجنين يسمح لهم بالبقاء مع أمهم دون أبيهم وكذلك من زكاهم القسس وشهدو لهم بحسن العقيدة وهكذا وجهت اسبانيا ضربتها القاضية لبقايا الأندلسيين وبدأ تنفيذ القرار في بلنسية وإجتمع زعماء المورسيكيين هناك وكان عهد الكفاح والثورة قد ولي وأجمعو علي ضرورة الرحيل وان لا يبقي منهم أحد ومن بقي طبقا للإستثناءات التي حددتها الحكومة الأسبانية فإنة يعد مارقا مرتدا وأنة لن تكون هناك فائدة تذكر من المقاومة وخرجت أول دفعة من هذة الأمة المعذبة من ثغر دانية في أكتوبر عام 1609 ميلادية وقدر عددهم ب 28000 نفس هاجرو إلي ثغر وهران المغربي وكانت وهران يومئذ تحت السيطرة الأسبانية ثم نقلو إلي تلمسان وقد فضل الكثيرون من الموسرين الرحيل عن طريق إستئجار سفن غير التي عينتها الحكومة ورحلت بهذة الطريقة 15000 نفس من ثغر بلنسية وتوجة نحو 25000 مورسيكي إلي ولاية نافار الفرنسية وبلغ عدد المغادرين في الثلاثة أشهر الأولي زهاء مائة وخمسين الفا وفي غرناطة وباقي انحاء الأندلس بدا تنفيذ القرار في يناير عام 1610 ميلادية وفي مرسية تأخر تنفيذ القرار حتي عام 1614 ميلادية وخرج من هناك زهاء 15000 نفس وعلي مدي بضع سنوات غادر أسبانيا نحو مليون مورسيكي في المتوسط وتعرض المغادرون لهجمات قطاع الطرق في كل من أسبانيا والمغرب نظرا لحملهم الكثير من المقتنيات النفيسة وخطف منهم الكثيرون وتم بيعهم عبيدا في الاسواق وهكذا ينتهي الفصل الأخير من مأساة المورسيكيين وكما يقول المؤرخ الرائع د محمد عبد اللة عنان طويت إلي الأبد صفحة شعب من أنبل وأمجد شعوب التاريخ وحضارة من أزهر الحضارات...
علي أن أثار المورسيكيين لم تندثر في أسبانيا كلية بعد هذة الأحداث فقد أفلتت شرذمة قليلة من النفي بسبب الإستثناءات وبسبب الرق وبسبب وساطات تقدم بها مواطنين أسبان علي صلة بدوائر الحكم وقد ضبطت في القرن الثامن عشر أمام محاكم التفتيش بعض من قضايا المورسيكيين كانو يجرون شعائر الإسلام في الخفاء وفي عام 1769 ضبط مسجد لإقامة الشعائر في قرطاجنة ولكن بنهاية القرن الثامن عشر ذابت هذة الشرذمة المورسيكية داخل النسيج الأسباني وإنطمست هويتهم وإنقطعت علاقتهم وصلتهم بتاريخهم المجيد علي أن يقال أنة ما زال إلي اليوم جماعات من الأسبان خاصة في فالنسيا وغرناطة وأشبيلية يغلب عليها التقاليد المورسيكية في اللباس والعادات التي ترجع في أصلها إلي تراث العرب والحضارة الإسلامية ويجهلون الطقوس النصرانية الخالصة......
بقي أن نقول أن الإمبراطورية الاسبانية بدأت ومنذ ماساة النفي في رأي الكثير من المؤرخين في الإنحدار والتحلل لصالح القوي الإستعمارية الجديدة مثل فرنسا وإنجلترا وبدأت تفقد مستعمراتها واحدة تلو الأخري وعاشت أزمات إقتصادية عديدة بمرور الزمن لم تنهض منها إلا وهي دولة وحيدة محدودة التأثير كما هو حالها اليوم ويري الكثيرون أن أسبانيا بفقدها للأندلسيين فقدت أنشط عناصرها صناعيا وزراعيا وحرفيا فخربت الضياع وكسدت التجارة وتوقف العمران والبنيان من ما أدي إلي تفكك الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس
خاتمة:
لا عجب إذن أن نفوذ الكنيسة وأفكارها الرجعية قد لفظتها أوروبا في عصور النهضة وخاصة في القرن الثامن عشر فتحررت الدولة من السيطرة الكنسية المتعصبة التي تعيق التقدم والنمو ونشأت علي الجانب الأخر علمانية متعصبة تنكرالدين وتمجد العلم وتري بينهما تعارضا بفهم مغلوط كانت الكنيسة برجعيتها وتخلفها هي السبب المباشر فية...
من العجيب أنة في يونيو 2015 ميلادية إعتذرت اسبانيا علي لسان الملك شخصيا لأحفاد لليهود السفارديم (من أصل مغربي) اللذين طردو من الاندلس بعد سقوط غرناطة في عام 1492 ميلادية وقررت الحكومة منحهم حق الجنسية المزدوجة ورحبت بهم في بلدهم الأصلي أسبانيا وهذة مفارقة مبكية فنحن ضد طرد أي إنسان بغض النظر عن ديانتة خارج أرضة بسبب معتقدة...لقد كان اليهود أقلية تعيش في كنف الدولة الاندلسية وتحت حمايتها وعددهم كان لا يرقي إلي نسبة 5% من مجموع السكان وأكثر من 90% من السكان المسلمين اللذين شردو واللذين تم تعذيبهم علي يد شياطين محاكم التفتيش لم تعرهم الحكومة الأسبانية أي إهتمام!!!! ولكن بعد التأمل قليلا فإن تصرف الحكومة الأسبانية يبدو منطقيا نظرا لنفوذ اليهود في وقتنا الحالي من جهة ونظرا لأن تقديم مثل هذا الإعتذار لمسلمي المغرب علي أقل تقدير يسمح بحصول الملايين علي الجنسية الأسبانية وعلي حق العودة ويعتبر بمثابة إعتراف ضمني بحق المسلمين في أرضهم المسلوبة والغرب عموما مازال ينظر إلي الإسلام حتي اليوم نظرة المتوجس والمرتاب ويعتبرة عدو لا صديق....مازالت إذن أثار العصبية الدينية المستمدة من التاريخ الكنسي موجودة وحاضرة حتي في ظل التعددية والحكم الديمقراطي
قضت القوة الإسبانية الغاشمة إذا علي الشعب الأندلسي وإلي الأبد فتفرقو بين الشعوب وذابو في مجتمعات غريبة فإندثرت هويتهم وذابت ثقافتهم ولم يتبق من أثرهم في أسبانيا سوي جينات وراثية تناقلتها الاجيال ولا تخطئها العين في الكثير من الوجوة ذات الملامح العربية الخالصة في نسبة ليست بالقليلة بين جموع الشعب الأسباني اللذي نعاصرة اليوم غير أن قصر الحمراء الشامخ وجنة العريف في غرناطة وقنطرة قرطبة العظيمة ومسجدها الجامع وبرج الذهب في أشبيلية ومسجدها الجامع والمئات من التحف المعمارية الإسلامية التي تنبض بالحياة ومئات الكتب والمخطوطات التي أثرت التراث الإنساني في مختلف العلوم ومئات العلماء والشعراء والفقهاء ذائعي الصيت والملايين التي ترقد رفاتها تحت التراب الأندلسي تصرخ غاضبة في وجة أسبانيا هذة أرض ليست لكم هذة أندلسنا...........
المرجع:
كتاب دولة الإسلام في الأندلس د محمد عبداللة عنان
تاريخ المسلمين في إسبانيا بعد زوال الحكم الإسلامي الجزء الأول
تاريخ المسلمين في إسبانيا بعد زوال الحكم الإسلامي الجزء الثاالثتاريخ المسلمين في إسبانيا بعد زوال الحكم الإسلامي الجزء الأول
إرسال تعليق
0تعليقات